فصل: تفسير الآيات (168- 176):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (163- 165):

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
{وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: نزلت في كفّار قريش قالوا: يا محمّد صف وأنسب لنا ربّك فأنزل الله تعالى سورة الاخلاص وهذه الآية.
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً يعبدون من دون الله إفكاً وشرّاً فبيّن الله تعالى لهم إنّه واحد فأنزل: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم}.
سعيد عن أبي الضحى: قال: لمّا نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إنّ محمّداً يقول الهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصّادقين فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء والاختلاف: الإفتعال من خلف يخلف خلوفاً يعني إنّ كل واحد منهما إذا ذهب أحدهما جاء آخر خلافه أي: بعده، نظير قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62].
عطاء وابن كيسان: أراد في اختلاف الليل والنّهار في اللّون والطّول والقصر والنّور والظلمة والزيادة والنقصان يكون أحدهما على الآخر، والليل جمع ليلة مثل تمرة وتمر ونحلة ونحل، واللّيالي جمع الجمع والنّهار واحد وجمعه نُهر. قال الشّاعر:
لولا الثّريدان هلكنا بالضّمر ** ثريد ليل وثريد بالنّهر

وقدّم الليل على النّهار بالذكر لإنّه الأصل والأقدام قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37]. خلق الله تعالى الأرض مظلمة ثمّ خلق الشمس والقمر وهذا كتقديمه الصّوامع والبيع والصلوات على المساجد.
{والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} يعني السفن واحدة وجمعه سواء قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون} [الصافات: 139-140].
وقال في الجمع: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] يذكّر ويؤنّث قال الله تعالى: {الفلك المشحون} وقال في التأنيث {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} فالتذكير على الفظ الواحد والتأنيث على معنى الجمع.
{بِمَا يَنفَعُ الناس} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وانواع المطلب.
{وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} يعني المطر.
{فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد يبوستها وجدوبتها.
{وَبَثَّ} نشر وفرّق.
{فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح} أي يقلّبها قبولاً ودبوراً وشمالاً وجنوباً.
وقيل: تصريفيها مرّة بالرحمة ومرّة بالعذاب.
وقرأ حمزة والأعمش والكسائي وخلف: الرّيح بغير ألف على الواحد وقرأ الباقون: الرّياح بالجمع.
قال ابن عبّاس: الرّياح للرحمة والريح للعذاب، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول: «اللّهمّ اّجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً».
والرّيح يذكر ويؤنث.
{والسحاب المسخر} أي الغيم المذلّل {بَيْنَ السمآء والأرض} سمّي سحاباً لأنّه يسحب أي يسير في سرعته كأنّه يسحب: أي يجرّ.
{لآيَاتٍ} دلالات وعلامات.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فيعلمون إنّ لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» أي لم يتفكّر فيها ولم يعتبر بها.
{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ} يعني الأصنام المعبودة من دون الله قال أكثر المفسّرين.
وقال السّدي: ساداتهم وقاداتم الّذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيحبّونهم {كَحُبِّ الله} أي كحبّ المؤمنين الله.
وهذا كما يقال: بعت غلامي كبيع غلامك يعني: كبيعك غلامك.
وأنشد الفرّاء:
ولستُ مسلّماً ما دمت حيّاً ** على زيد كتسليم الأمير

أي كتسليمي على الأمير هذا قول أكثر العلماء، وقال ابن كيسان والزجّاج: تقدير الآية: يحبّونهم كحبّهم الله يعني أنّهم يسووّن بين هذه الأصنام وبين الله في المحبّة ثمّ قال: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} قال ابن عبّاس: أثبت وأدوم وذلك إن المشركين كانوا يعبدون صنماً فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك الوثن وأقبلوا على عبادة الأحسن.
عكرمة: أشدّ حبّاً في الآخرة.
قتادة: إنّ الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ولا يقبل على الله عزّ وجلّ لقوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65].
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
والمؤمن لا يعرض عن الله في الضّراء والسرّاء والرّخاء والبلاء ولا يختار عليه سواه.
الحسن: إنّ الكافرين عبدوا الله بالواسطة وذلك قولهم للأصنام: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18].
وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].
والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة ولذلك قال عزّ من قائل: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ}.
سعيد بن جبير: إنّ الله يأمر يوم القيامة من أحرف نفسه في الدّنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم فيأتون لعلمهم إنّ عذاب جهنم على الدّوام ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكافرين: إنّ كنتم أحبّائي لا تحبّون النّار فينادي مناد من تحت العرش {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ}.
وقيل: لأنّ حبّ المشركين لأوثانهم مشترك لأنّهم يحبّون الأنداد الكثيرة وحبّ المؤمنين لربّهم غير مشترك لأنّهم يحبّون ربّاً واحداً، وقيل: لأنّ حبّهم هوائي وحبّ المؤمنين عقلي.
وقيل إنّ حبّهم للأصنام بالتقليد وحبّ المؤمنين لله تعالى بالدّليل والتمييز.
وقيل: لأنّ الكافرين يرون معبودهم ومصنوعهم والمؤمنون يرون الله تعالى صانعهم، وقيل: لأنّ المشركين أحبّوا الأصنام وعاينوها والمؤمنون يحبّون الله ولم يعاينوه بل آمنوا بالغيب في الغيب للغيب.
وقيل: إنّما قال: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} لأنّ الله أحبّهم أوّلاً ثمّ أحبّوه ومن شهد له المعبود بالمحبّة كان محبّته أتم وأصح.
قال الله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم بفتح الياء وهي لغة يقال: حببت الرجل فهو محبوب قال الفرّاء أنشدني أبو تراب:
أحبّ لحبّها السّوادن حتّى ** حببت لحبّها سواد الكلاب

{وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا} قرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر وشيبه ونافع وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون وسلام ويعقوب وأيّوب وابن عبّاس ولوترى بالتّاء: أي تبصر يا محمّد وقرأ الباقون بالياء.
فمن قرأ بالتّاء فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والجواب محذوف تقديرها ولو ترى: أي تبصر يا محمّد الّذين ظلموا: أشركوا.
{إِذْ يَرَوْنَ العذاب} لرأيت أمراً عظيماً ولعلمت ما يصيرون إليه أو لتعجّبت منه، ومن قرأ بالياء فمعناه: لوترى الّذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا {أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً} أو لآمنوا أو لعلموا مضرّة الكفر ونظير هذه الآية من المحذوف الجواب قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] الآية: يعني لكان هذا القرآن وهو كما يقول: لو رأيت فلاناً والسّياط تأخذه. فتستغني عن الجواب؛ لأنّ المعنى مفهوم {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}.
وقرأ أبو البرخثم وابن عامر: يُرون بضم الياء على التعدي، وقرأ الآخرون بفتحها على اللزوم.
{أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً} قرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وشيبة وسلام ويعقوب: {إنّ القوّة وإن الله} بكسر الألف فيهما على الأستئناف والكلام تام عند قوله: {يَرَوْنَ العذاب} مع أضمار الجواب، كما ذكرنا.
وقرأ الباقون: بفتحها على معنى بانّ القوّة وبانّ الله، وقيل: معناه ليروا أنّ القوّة لله أي لأيقنوا وعاينوا.
قال عطاء: ولو يرى الذيّن ظلموا يوم القيامة إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام لتلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبّة؛ لعلموا أنّ القوّة والقدرة والملكوت والجبروت لله جميعاً.
{وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب}.

.تفسير الآيات (166- 167):

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
{إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} قرأ مجاهد: بتقديم الفاعل على المفعول.
وقرأ الباقون: بالضدّ، والمتبوعون هم الجبابرة والقادة في الشرك والشّر، والتابعون هم الأتباع والضّعفاء والسفلة قالهُ أكثر أهل التفسير.
السّدي: هم الشيّاطين يتبرأون من الأنس.
{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} أي عنهم، والباء بمعنى عن.
{الأسباب} قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: يعني المودّة والوصلة التي صارت بينهم في الدُّنيا، أو صارت مخالفتهم عداوة.
ربيع: يعني بالأسباب المنازل التي كانت لهم من أهل الدُّنيا، ابن جُريح والكلبي: يعني الأنساب والأرحام كقوله تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101].
السّدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدُّنيا. بيانه قوله: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] وقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1].
فأهل التقوى أعُطوا الأسباب أعمال وثيقة فيأخذون بها وينجون، الآخرون يعطون أسباب أعمالهم الخبيثة فتنقطع بهم أعمالهم فيذهبون إلى النّار.
أبو روق: العهود التي كانت بينهم في الدنيا، وأصل السّبب كلّ شيء يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودّة، ومنه قيل للجهاد: سبب وللطريق سبب وللسلّم سبب. قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ظلتهُ ** لو رام أن يرقى السّماء بسلّم

{وَقَالَ الذين اتبعوا} يعني الأتباع.
و {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رجعة إلى الدُّنيا.
{فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من المتبوعين.
{كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} اليوم أجاب للتمني بالفعل.
قال الله عزّ وجلّ {كَذَلِكَ} أي كما اراهم العذاب كذلك.
{يُرِيهِمُ الله} وقيل: ليتبرأوا بعضهم من بعضهم يريهم الله {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندامات.
{عَلَيْهِمْ} قيل: اراد أعمالهم الصّالحة التي ضيعّوها.
قال السّدي: ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فسألوا قيل: أراد أعمالهم لو أطاعوا الله فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله. ثمّ تقسم بين المؤمنين فيرثوهم فذلك حين يندمون.
ربيع: أراد به أعمالهم السّيئة لمَ عملوها وهلاّ عملوا بغيرها ممّا يرضي الله تعالى.
ابن كيسان: إنّهم اشركوا بالله الأوثان رجاء أن يُقر بّهم إلى الله فلمّا عذّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسّروا وندموا والحسرات جمع حسرة وكذلك كلّ إسم كان واحدة على فعله مفتوح الأوّل ساكن الثاني فإنّ جمعه على فعلات مثل ثمرة وثمرات وشهوة وشهوات فأمّا إذا كان نعتاً فانّك تسكّن ثانية مثل ضخمه وضخمات وعيلة وعيلات وكذلك ما كان من الأسماء مكسور الأوّل مثل نعمة وسدرة.
{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}.

.تفسير الآيات (168- 176):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
{ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فبما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فقال: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض} دخل للتبعيض لانّه ليس كلّ ما في الأرض يمكن أكلّه أو يحلّ أكلّه {حَلاَلاً طَيِّباً} طاهراً وهما منصوبان على الحال.
وقيل: على المفعول تقديره: كلوا حلالاً طيّباً كما في الأرض.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} قرأ شيبه ونافع وعاصم والأعمش وحمزة خطوات: بسكون الطّاء في جميع القرآن وهي أكثر الروايات عن أبي عمرو.
وقرأ أبو جعفر وأبو مجلن وأبو عمرو في بعض الروايات والزهري وابن عامر والكسائي: بضم الخاء والطّاء.
وقرأ علي وعمرو بن ميمون وسلام: بضم الخاء والطّاء وهمزة بعد الطّاء.
وقرأ أبو السّماك العدوي وعبيد بن عمير: خطوات بفتح الخاء والطاء فمن خفّف فإنّه أبقاه على الأصل، وطلب الخفّة لانّها جمع خطوة ساكنة الطاء، ومن ضم الطاء فيه أتبعها ضمة الخاء، وكل ما كان من الأسماء وزن فعله فجمع على التاء فإنّ الأغلب والأكثر في جمعه التثقيل وتحريك من الفعل بالحركة التي في فاء الفعل في الواحد مثل ظلمة وظلمات، وقربة وقربات، وحجرة وحجرات، وقد يخفف أيضاً.
ومن ضمّ الخاء والطاء مع الهمز.
فقال الأخفش: أراد ذهب بها مذهب الخطيئة فجعل ذلك على مثال خطه من الخطأ.
وقال ابو حاتم: أرادوا إشباع الضمّة في الواو فانقلبت همزة وهذا شائع في كلّ واو مضمومة ومن نصب الخاء والطّاء فانّه أراد جمع خطوة مثل تمرة وتمرات واختلفوا في معنى قوله: {خُطُوَاتِ الشيطان} فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: خطوات الشيطان: عمله.
مجاهد وقتادة والضّحاك: خطاياه.
السّدي والكلبي: طاعته.
عطاء عن ابن عبّاس: زلاته وشهواته.
أبو مجلن: هي البذور في المعاصي.
المورّج: آثاره.
أبو عبيد: هي المحقّرات من الذنوب.
القتيبي والزجاج: طرقه.
والخطوة ما بين القدمين، والخطوة بالفتح الفعلة الواحدة من قول القائل: خطوت خطوة واحدة.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بيّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، قد أبان عداوته لكم بإبائه السّجود لأبيكم آدم عليه السلام وغروره إياه حين أخرجه من الجنّة، وأبان: يكون لازماً ومتعدياً، ثمّ بيّن عداوته فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء}: يعني الأثمّ، وأصل السّوء كل ما يسوء صاحبه، وهو مصدر: ساءه يسوءه سوءاً ومساءة إذا حزنه وسوءه شيء أي حزنته فحزن. قال الله تعالى {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27]. قال الشاعر:
إنّ يك هذا الدّهر قد ساءني ** فطالما قد سرّني الدّهر

الأمر عندي فيهما واحد ** لذلك صبرُ ولذا شكرُ

{والفحشآء} يعني المعاصي، وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالبأساء والضّراء واللاواء، ويجوز أن يكون نعتاً لا فعل لهُ كالعذراء والحسناء، وقال متمم بن نويرة:
لا يضمر للحشا تحت ثيابه ** خُلق شمائله عفيف المبرر

واختلف المفسرون في معنى الفحشاء المذكور في هذه الآية.
روى باذان عن ابن عبّاس قال: الفحشاء كلّ ما فيه حدّ في الدُّنيا من المعاصي فيكون من القول والفعل، والسّوء من الذنوب ما لا حدّ فيه.
طاووس: عنه فهو ما لا يُعرف في شريعة ولا سنّة.
عطاء عنه: البخل. السّدي: الزّنا.
وزعم مقاتل إنّ جميع ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنّه الزّنا إلاّ قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة: 268] فإنّه منع الزّكاة.
{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله} اختلفوا في وجه هذه الآية، قال بعضهم: إنّها قصّة مستأنفة وأنّها نزلت في اليهود على هذا القول تكون الهاء والميم في قوله: {لَهُمُ} كناية عن غير مذكور.
وروى محمّد بن إسحاق بن يسار عن محمّد بن أبي محمّد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عبّاس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبّهم فيه وحذّرهم عذاب الله ونقمته فقال له نافع بن خارجة ومالك بن عوف {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فهم كانوا خيراً واعلم منّا فأنزل الله هذه الآية، وقال قوم: بل هذه الآية صلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفّار قريش واختلفوا فيه فقال الضّحاك عن ابن عبّاس: فإذا قيل لهم إتبّعوا ما أنزل الله يعني كفّار قريش من بني عبد الدّار، قالوا: بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام.
فقال الله {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} من التوحيد ومعرفه الرحمن {وَلاَ يَهْتَدُونَ} للحجّة البالغة وعلى هذا القول تكون الهاء والميم عائدة على من في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً} [البقرة: 165] وقال الآخرون: إذا قيل لهم إتبّعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرّموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والسائبة والوصيلة والبحيرة والحام وسائر الشرائع والأحكام {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا} وجدنا عليه آباؤنا من التحريم والتحليل والدّين والمنهاج وعلى هذا القول تكون الهاء والميم راجعة إلى النّاس في قوله تعالى: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168].
ويكون الرجوع عن الخطاب إلى الخبر، كقوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وهذا أولى الأقاويل لأنّ هذه القصّة عقب قوله: {ياأيها الناس} فهو أولى أن يكون خبراً عنهم من أن يكون خبراً عن المتخذين الأنداد بما فيهما من الآيات لطول الكلام.
وادغم علي بن حمزة الكسائي لام هل وبل في ثمانية أحرف التاء كقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ} [الأعلى: 16] و{هَلْ تَعْلَمُ} [مريم: 65] والثاء كقوله: {هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين: 36]، والسين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18]، والزاي كقوله: {بَلْ زُيِّنَ} [الرعد: 33]، والضاد كقوله: {بَلْ ضَلُّواْ} [الأحقاف: 28]، والظاء كقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} [الفتح: 12] والطاء كقوله: {بَلْ طَبَعَ الله} [النساء: 155]، والنون نحو قوله: {بَلْ نَحْنُ} [الواقعة: 67] [القلم: 27]، {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} وإنّما خصّ به لام هل وبل دون سائر اللامات: لأنّها ساكنة بتاً، وسائر اللاّمات ساكنة بعلل متى ما زالت تلك العلل زال سكونها.
فقال الله {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} واو العطف، ويُقال أيضاً واو التعجب دخلت عليها ألف الإستفهام للتوبيخ والتقرير؛ فلذلك نصبت، والمعنى يتبعون آباءهم وإن كانوا جهّالاً، وترك جوابه لأنّه معروف.
قوله تعالى: {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} لفظ عام ومعناه الخصوص لأنّهم كانوا يعقلون أمر الدُّنيا ومعناه لا يعقلون شيئاً من أمر الدّين ولا يهتدون.
ثمّ ضرب لهم مثلاً فقال عزّ من قائل {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ}.
وسلكت العلماء في هذه الآية طريقين، وأوّلوها على وجهين: فقال قوم: أراد بما لا يسمع إلاّ دعاء مثل البهائم التي لا تعقل، مثل الإبل والغنم والبقر والحمير ونحوها، وعلى هذا القول: ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع والسدي وأكثر المفسرين. ثمّ اختلف أهل المعاني في وجه هذا القول وتقدير الآية.
فقال بعضهم: معنى الآية: ومثلك يا محمّد ومثل الّذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله عزّ وجلّ قاله الأخفش والزجّاج.
وقال الباقون: مثل واعظ الّذين كفروا وداعيهم.
{كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} فترك ذلك وأضاف المثل إلى الّذين كفروا لدلالة الكلام عليه ويسمّى هذا النوع من الخطاب المضمر ومثله في القرآن كثير كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقاً ** وما هي وثبت غيركُ بالعناق

يعني حسبت بغام راحلتي بغام عناق، وقال الرّاجز:
ولستُ مسلماً ما دمت حياً ** على زيد كتسليم الأمير

أي كتسليمي على الأمير. فشبه الله عزّ وجلّ واعظ الكفار بالرّاعي الذي ينعق بالغنم أي يصيح ويصوت بها. يُقال: ينعق نعيقاً ونُعاقاً ونعقاً إذا صاح وزجر، قال الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنّما ** منّتك نفسك في الخلاء ضلالا

فكما أنّ هذه البهائم تسمع الصّوت ولا تفهمه ولا تنتفع به ولا تعقل ما يُقال لها، وكذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إن أمرته بخير أو زجرته عن سوء، غير أنّهُ يسمع صوتك.
قال الحسن: يقول مثلهم فيما قبلوا من آباءهم وفيما أتيتهم به حيث لا يسمعونه ولا يعقلونه، كمثل راعي الغنم الذي نعق بها فإذا سمعت الصّوت رفعت رؤوسها فاستمعت إلى الصّوت والدُّعاء ولا تعقل منه شيئاً.
ثمَّ تعود بعد إلى مراتعها لم تفقه ما يُراد لها به، وقال بعضهم: معنى الآية {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} في قلّة عقلهم وفهمهم عن الله عزّ وجلّ وعن رسوله وسوء قبولهم عنهما كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهّي غير الصّوت فكذلك الكافر في قلة فهمه وسوء تفكّره وتدبّره فيما أُمر به ونُهي عنه فيكون المعنى للمنعوق به الكلام خارج على النّاعق وهو فاش في كلام العرب، يفعلون ذلك ويقبلون الكلام لاتضاح المعنى عندهم.
فيقولون. فلان يخافك كخوف الأسد: أي كخوفه الأسد.
ويقولون: أعرض الحوض على النّاقة، وإنّما هو أعرض النّاقة على الحوض. قال الله عزّ وجلّ {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] وإنّما العصبة تنوء بالمفاتيح، وقال الشاعر:
وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ** على وعِل في ذي المطارة عاقل

والمعنى: حتّى ما يزيد مخافتي وجل على مخافتي، وقال الآخر:
كانت فريضة ما تقول كما ** إنّ الزنّى فريضة الرّجم

والمعنى: كما إنّ الرّجم فريضة الزّنا، وأنشد الفراء:
إن سّراجاً لكريم مفخره ** تُجلى به العين إذا ما تجمره

والمعنى: يحلى بالعين، ونظائره كثيرة. وعلى هذا القول أبو عبيدة والفراء وجماعة من العلماء، وقال بعضهم: معنى الآية: ومثل الكفّار في قلة فهمهم وعقلهم، كمثل الرُّعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل عنهم، وعلى هذا التفسير لا تحوّل الآية إلى الضمير، وقال بعضهم: معناها ومثل الّذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه دعاؤهم كمثل النّاعق بغنمه؛ فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير إنّه في عناء من دُعاء ونداء، فكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلاّ العناء والبلاء، ولا ينتفع منها بشيء، يدلّ عليه قوله تعالى في صفة الأصنام {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا} [فاطر: 14]. فهذا وجه صحيح.
وأمّا الوجه الآخر، فقال قوم: معنى الآية ومثل الكفّار في دعائهم الأوثان وعبادتهم الأصنام كمثل الرّجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيب فيها صوت يقال له: الصدى يجيبه ولا ينفعه. فيكون تأويل الآية على هذا القول، ومثل الكفّار في عبادتهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع منه إلاّ دعاء ونداء.
ثمّ قال: {صُمٌّ} أي هم صمُّ، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمعه كأنّه أصم. قال الشاعر:
أصم عما يساء سميعُ... {بُكْمٌ} عن الخير فلا يقولونه. {عُمْيٌ} عن الهدي فلا يبصرونه.
{فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} من حلالات.
{مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الحرث والأنعام وسائر المأكولات والنعم.
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّه قال: «إنّ الله طيب لا يقبل إلاّ الطيب، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51] وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء بيا ربّ يا رب ومطعمهُ حرام ومشربه حرام وملبسهُ حرام وغُذي في حرام فأنّى يستجاب له».
{واشكروا للَّهِ} على نعمته.
{إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يقول الله جلّ جلاله إنّي والجنّ والأنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري».
ثمّ بيّن ما حُرّم عليكم فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} قرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنّما حرم خفيفة الرّاء مضمومة.
{الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} رفعاً على إنّ الفعل لها، وروى عن أبي جعفر: إنّه قرأ حُرّم بضم الحاء وكسر الرّاء وتشديدها ورفع ما بعده وله وجهان:
أحدهما: إنّ الفاعل غير مسمّى.
والثاني: إنّ الّذي حرّم عليكم الميّت على خبر إنّ.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: حرَّم بنصب الحاء والرّاء مشدّداً ورفع ما بعده جعل ما بمعنى الّذي منفصله عن قوله: إنّ وحينئذ تكون ما نصباً بإسم إنّ وما بعدها رفعاً على خبرها كما تقول: إنّ ما أخذت مالك وإنّ ما ركبت دابّتك أي: إنّ الّذي قال الله {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69].
وقرأ الباقون: حرّم عليكم الميتة نصباً على إيقاع الفعل وجعلوا إنّما كلمة واحدة تأكيداً وتحقيقاً.
وقرأ أبو جعفر: الميتة (وأخواتها) بالتشديد في كلّ القرآن، وأمّا الآخرون فخففّوا بعضاً وشدّدوا بعضاً فمن شدّد قال أصله: ميوت فعل من الموت فأدغمت الياء في الواو وجعلت الواو ياءاً مشدّدة للكسرة كما فعلوا في سيّد وحيّد وصيّب ومن لم يشدّد فعلى طلب الخفّة وهما لغتان مثل: هيّن وهيْن، وليّن ولين. قال الشاعر:
ليس من مات واستراح بميّت ** إنّما الميت ميّت الأحياء

فجمع بين اللّغتين.
وحكى أبو معاذ عن النحوييّن وقال: إنّ الميْت بالتخفيف الّذي فارقه الرّوح، والميّت بالتشديد الّذي لم يمت بعد وهو يموت قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]: لم يختلفوا في تشديده والله أعلم. والميتة: كلّ ما لم تدرك ذكاته وهو ممّا يذبح، والدّم: أراد به الدّم الجاري يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] مقيّد.
وهذه الآية مخصوصة بالسنّة وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «حلّلت أنا ميّتان ودمان فأمّا الميّتان فالحوت والجراد، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال».
وقوله: {وَلَحْمَ الخنزير} أراد به جميع أجزائه وكلّ بدنه فعبّر بذلك عن اللّحم لأنّه معظمه وقوامه. {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} أي ماذُبح عن الأصنام والطّواغيت. كما قاله ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحاك، وأصل الإهلال رفع الصّوت ومنه إهلال الحج وهو رفع الصّوت بالتلّبية. قال ابن أحمر:
نصف فلاة يهلّ بالفرقد ركبانها ** كما يهلّ الراكب المعتمر

وقال آخر:
أو درّة صدفية غواصها ** يهيج متى يرها تهلّ وتسجد

ومنه (أهل) الصّبي واستهلاله، وهو صياحه عند خروجه من بطن أُمّه، وفي الحديث: «كيف آذي من لانطق ولا استهلّ ولاشرب ولا أكل» فمثل ذلك يُطل، ومثل أهلال المطر واستهلاله وانهلاله وهو صوت وقوعه على الأرض.
قال عمر بن قميئة:
ظلم البطاح له انهلال حريصة ** فصفا النّطاف له بُعيد المقلع

وانّما قال: وما أهلّ به لانهم كانوا إذا ذبحوا لآلهتهم التّي ربّوها جهروا به أصواتهم فجرى ذلك من أمرهم حتّى قيل: لكل ذابح سمّى أولم يسمّ جهر الصّوت أو لم يجهر مُهلّ.
الربيع بن أنس وغيره: وما أهلّ به لغير الله ماذكر عليه غير اسم الله. وقال الزهري: الاهلال لغير الله أن تقول باسم المسيح وهذه الآية مخصوصة بأهل الكتاب وهو قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5].
وروى حيوة عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الاشجعي إنهما قالا: إنّما أحلّ لنا ماذبح لعيد الكنائس وما أهدي لها من خبز أو لحم فإنّما هو طعام أهل الكتاب، وقال حيوة: قلت أرأيت قول الله تعالى: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} فقال: انّما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون.
{فَمَنِ اضطر} قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وابو عمرو: فمن أضطرّ بكسر النون فيه وفي أخواته مثل: أن اقتلوا أو اخرجوا ونحوها لأنّ الجزم يحرّك إلى الكسر وقرأ الآخرون بضمّ النّون لمّا سكنّوا آخر الفعل الذي يليه لأجل الوصل نقلوا ضمّته إلى النّون، وقرأ ابن محيصن: فمن إضطر بادغام الضّاد في الطّاء حتّى تكون طاء خالصة، قرأ أبو جعفر بكسر الطاء رد إلى الطّاء كسرت الرّاء المدغمة لأنّ أصله اضطرر على وزن افتعل من الضّرورة.
قرأ الباقون: بضمّ الطاء على الاصل ومعناه أُحرج وأُجهد وأُلجيء إلى ذلك.
وقال مجاهد: اكره عليه كالرجل يأخذه العدّو فيكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله.
{غَيْرَ} نصب على الحال، وقيل على الاستثناء فإذا رأيت غيره لا يصلح في موضعها إلاّ فهي حال وإذا صلح في موضعها إلاّ، فهي: استثناء فقس على هذا ما ورد عليك من هذا الباب.
{بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أصل البغي في اللّغة قصد الفساد يقال: بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد ومنه قيل: للزّنا بغاء.
قال الله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} [النور: 33] والزّانية بغي.
قال الله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28].
وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال: عدا عليه عدواً وعدوّاً وعدواناً وعِداء إذا ظلم، واختلف المفسرون في معنى قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فقال بعضهم: غير باغ: أي غير قاطع للطّريق، ولا عاد: مفّرق للائمة شاقّ للأمّة خارج عليهم بسيفه فمن خرج يقطع الرحم أو يخيف ابن السبيل أو يفسد في الأرض أو ابق من سيّده أو فرّ من غريمه أو خرج عاصياً بأي وجه كان فاضطرّ إلى ميتة لم يحلّ له اكلها أو اضطرّ إلى الخمر عند العطش لم يحلّ له شربه ولا رخصة له ولا كرامة فأمّا إذا خرج مطيعاً ومباحاً له ذلك فانه يرخّص فيه له وهذا قول: مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك والكلبي ويمان وهو مذهب الشّافعي، قال: إذا ابحنا له ذلك فقد أعناه على فساده وظلمه إلى أن يتوب ولايستبيح ذلك وقال آخرون: هذا البغي والعدوان راجعان إلى الاكل واليه ذهب أبو حنيفة وأباح تناول الميتة للمضطر وإن كان عاصياً.
ثمّ اختلف أهل التأويل في تفصيل هذه التفسير:
فقال الحسن وقتادة والرّبيع وابن زيد: غير باغ: يأكله من غير اضطرار، ولا عاد: متعدي يتعدى الحلال إلى الحرام فيأكلها وهو غني عنها.
مقاتل بن حيّان: غير باغ: أي مستحل لها، ولاعاد: متزود منها.
السّدي: غير باغ في أكله شهوة فيأكلها مُلذذاً، ولا عاد يأكل حتى يشبع منه؛ ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقاً.
شهر بن حوشب: غير باغ: أي مجاوز للقدر الّذي يحلّ له، ولا عاد ولا يُقصر فيما يحلٌّ له فيدعهُ ولا يأكله.
قال مسروق: بلغني إنّه من اضطر إلى الميتة فلم يأكلها حتّى مات دخل النّار، وقد اختلف الفقهاء في مقدار مايحلٌّ للمضطر أكلهُ من الميتة.
فقال بعضهم: مقدار مايُمسك به رمقه، وهو أحد قولي الشّافعي واختيار المزني.
والقول الآخر: يأكل منها حتّى يشبع، وقال مقاتل بن حيّان: لا يزداد على ثلاث لقم.
وقال سهل بن عبد الله: غير باغ مفارق لجماعة، ولا عاد مبتدع مخالف لسنّة، ولم يرُخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.
{فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فلا حرج عليه في أكلها.
{إِنَّ الله غَفُورٌ} لما أكل من الحرام في حال الأضطرار.
{رَّحِيمٌ} به حيث رخُص له في ذلك.
{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب} الآية.
قال جويبر عن الضّحاك عن ابن عبّاس: سئلت الملوك اليهود قبل مبعث محمّد صلى الله عليه وسلم عن الذي يجدونه في التوراة فقالت اليهود: إنّا لنجد في التوراة إنّ الله عزّ وجلّ يبعث نبيّاً من بعد المسيح يُقال له: محمّد، يحُرّم الزّنى والخمر والملاهي وسفك الدّماء، فلما بعث الله محمّداً صلى الله عليه وسلم ونزل المدينة قالت الملوك لليهود: أهذا الذي تجدون في كتابكم؟
فقالت اليهود طمعاً في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم الملوك الأموال، فأنزل الله تعالى هذه الآية اكذاباً لليهود.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم؛ كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعث منهم، فلما بعث الله محمّداً صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيرّوها ثمّ أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبيّ الذي يخرج في آخر الزّمان ولا يشبه نعت هذا النبيّ الّذي بمكّة.
فلما نظرت السفلة إلى النعت المُغيّر وجدوه مخالفاً لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه.
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب} يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته.
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ} بالمكتوم.
{ثَمَناً قَلِيلاً} عرضاً يسيراً يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم.
{أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ذكر البطن هاهنا للتوكيد؛ لأن الإنسان قد يقول أكل فلان مالي إذا أفسده وبذّره، ويُقال: كلمة من فيه؛ لأنّه قد يكلمه مراسلة ومكاتبة، وناوله من يده ونحوها.
قال الشاعر:
نظرت فلم تنظر بعينك منظرا... {إِلاَّ النار} يعني إلاّ مايوردهم النّار، وهو الرّشوة والحرام وثمن الدّين والإسلام.
لمّا كانت عاقبتهُ النّار، سماه في الحال ناراً.
كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] يعني إنّ عاقبته تؤول إلى النّار، وقوله صلى الله عليه وسلم في الذي يشرب في آنية الذهب والفضة «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم»، أخبر عن المال بالحال.
{وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} كلاماً ينفعهم ويسرّهم هذا قول أهل التفسير، وقال أهل المعاني: أراد به إنّه يغضب عليهم كما يقول فلان لايكلم فلاناً: أي هو عليه غضبان.
{وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أولئك الذين اشتروا الضلالة} أي استبدلوا الضلاّلة.
{بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}.: اختلفوا في (ما).
فقال قوم: هي (ما) التعجب، واختلفوا في معناها.
فقال الحسن وقتادة والرّبيع: والله مالهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النّار قال: وهذه لغة يمانية.
وقال الفراء: اخبرني الكسائي، أخبرني قاضي اليمن: إنّ خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال خصمهُ: ما أصبرك على الله.. أي ما أجرأك عليه.
وقال الموراج: فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النّار؛ لأنّ هؤلاء كانوا علماء.
فانّ من عاند النبّي صلى الله عليه وسلم صار من أهل النّار.
الكسائي وقطرب: معناه ما أصبرهم على عمل أهل النّار أي ماأدومهم عليه.... كما تقول: ما أشبه سخاك بحاتم: أي بسخاء حاتم.
مجاهد: ما أعلمهم بأعمال أهل النّار، وقيل: ما أبقاهم في النّار كما يُقال: ما أصبر فلاناً على الضرب والحبس...
عطاء والسّدي وابن زيد وأبو بكر بن عبّاس: هي (ما) الإستفهام ومعناه: ما الذي صبرهم وأيّ شيء صبرّهم على النّار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل.
فقيل هذا على وجه الإستهانة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} قال بعضهم معناه {ذَلِكَ} العذاب {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} واختلفوا فيه، وحينئذ تكون {ذلك} في محل الرّفع، وقال بعضهم محلهُ نصب.
معناه: فعلنا ذلك بهم بأنّ الله عزّ وجلّ، أو لأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ، واختلفوا فيه، وكفروا به فنزع حرف الصّفة.
وقال الأخفش: خبر ذلك مضمر معناه: ذلك معلوم لهم بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ.
وقال بعضهم: معناه {ذلك}: أي فعلهم الذين يفعلون من الكفر والأختلاف والأجتراء على الله تعالى من أجل إنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ، وتنزيله الكتاب بالحقّ هو اخباره عنهم {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم}.
{وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب} فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
{لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} لفي خلاف، وضلال طويل.